التاريخ النقابى

وقد تركزت التجمعات العمالية فى وحدات صناعية كبيرة مملوكة لرأسمالية أجنبية وفدت إلى البلاد بعد الاحتلال عام 1882.. حيث اختلطت العمالة المصرية بالعمالة الأجنبية الوافدة.. خاصة من دول حوض البحر المتوسط كالإيطاليين واليونانيين والمالطيين والقبارصة والأرمن.. وغيرهم ومن ثم عرف العمال المصريون أشكال النضال العمالى الجماعى من أجل تحقيق المطالب كالإضرابات والاعتصامات.. ثم الانتظام فى النقابات التى اتخذت معظمها اسم الجمعيات.

غير أن نمو الاستثمارات الأجنبية خلال هذه الفترة واستفحالها خاصة بعد أن وضع الأجانب أيديهم على المنشآت المصرية التى كانت قائمة فى عهد الخديوى إسماعيل والخديوى توفيق وفاءا أو ضمانا للديون.. قد صاحبه بطبيعة الحال حرص الإدارات الأجنبية على أن تستخدم عمالة من جنسيات أجنبية تدفع بها إلى المواقع الإشرافية الإدارية والفنية مما يجعل لها نوع من التميز والسيطرة على العمال المصريين. بل أن كثيرا من هذه العناصر كانت تتعمد الإساءة إلى العمال المصريين وإهانتهم والجور على حقوقهم لحساب الإدارة الأجنبية.. ومن هنا فقد اقترن النضال المطلبى للعمال المصريين بمفهوم النضال ضد النفوذ الأجنبى وضد التميز الأجنبى وهو المفهوم الذى أخذ يتنامى ليصبح نضالا ضد الوجود الأجنبى ذاته ليترسخ بذلك المضمون الوطنى للحركة العمالية المصرية.

ولعل فيما سجله التاريخ من أعمال عنف وإضرابات كان يقوم بها العمال الأجانب فى الشركة العالمية لقناة السويس البحرية فى عهد إسماعيل من أجل تحقيق مطالبهم وخاصة خلال الفترة من 1825 إلى 1860 ما يمكن اعتباره بدايات الحركة العمالية فى علاقات العمل بمصر.

غير أن هذه التحركات والإضرابات كان يقوم بها العمال الأجانب وحدهم دون أن يشاركهم فيها العمال المصريون مما كان يؤدى إلى مصادمات بين الطرفين.. لماذا؟

لأن المصريين كانت تملؤهم المرارة وآلام العمل بالسخرة والقهر تحت سياط الأجانب وخاصة فى حفر قناة السويس وفى شق الترع ومد خطوط السكك الحديدية.. وغير ذلك من الأعمال التى استمرت على أيدى السلطات الأجنبية خلال الحرب العالمية الأولى التى عبر عنها الفنان الشعبى سيد درويش بالأغنية الحزينة [ولدى يا ولدى السلطة أخذت ولدى].

أما العمال المصريون فلعل أول إضراب لهم هو ما قام به عمال الشحن والتفريغ فى ميناء بورسعيد إبان شهرى أبريل ومايو 1882 ضد شركة الفحومات البريطانية.. للمطالبة بزيادة الأجور.

وعلى أية حال.. فإن الربع الأخير من القرن التاسع عشر حفل بالعديد من إضرابات العمال والتى كان من أبرزها إضراب عمال الدخان والسجائر الذى بدأ فى ديسمبر 1899 واستمر حتى 21 فبراير 1900 تحت إشراف مجموعة من العمال أصبحت فيما بعد نقابة عمال السجائر المختلطة التى كانت تضم فى عضويتها العمال المصريين.

ومن هنا يذهب معظم المؤرخين إلى أن سنة 1899 هى بداية ظهور التنظيمات النقابية العمالية فى مصر، وإن كان هناك من يرى أن بداية ظهور النقابات فى مصر يرجع إلى عام 1892 بتشكيل نقابة عمال السجائر بزعامة أحد العمال اليونانيين.

وهكذا جاء القرن العشرون مع تزياد الحركات العمالية فى تيار دافق اتسم بتزايد الإضرابات فى مختلف المواقع بما أسفر عن تشكيل منظمات نقابية للعمال تنظم حركتهم، وتتبنى مطالبهم، وتدافع عن قضاياهم.

ووصل الأمر إلى ذروته عندما تولى الزعيم الوطنى محمد فريد زعامة الحزب الوطنى عقب وفاة الزعيم مصطفى كامل فأنشأ نقابة الصنائع اليدوية عام 1908 متجها بذلك إلى جماهير العمال ليجعل منهم القاعدة الأساسية التى يستند إليها الحزب فى نضاله الوطنى ثم كانت الحرب العالمية الأولى وفرض الوصاية البريطانية على مصر بما ساد خلال تلك الفترة ألوان من بطش السلطة البريطانية وصولا إلى ثورة 1919 التى لعبت جماهير العمال دورا فعالا فى إشعالها ونجاحها.

لقد أبرزت ثورة 1919 المحتوى الوطنى للحركة العمالية المصرية ثم أكدت هذا المحتوى أحداث السنوات التالية مع تزايد بروز دور التنظيمات النقابية للعمال فى قيادة الجماهير باتجاه أهداف النضال الوطنى ضد الاحتلال ومن أجل التحرر من الاحتلال الأجنبى السياسى والاقتصادى وإقرار العدالة الاجتماعية والدفاع عن الدستور والديمقراطية.

إن أدبيات التنظيمات النقابية لعمال مصر ووثائقها خلال الفترة من 1919 إلى ثورة 1952 حافلة بما ينم عن المضمون السياسى والاجتماعى لنضال هذه التنظيمات والتركيز على أن التحرر الاجتماعى والاقتصادى لنضال هذه التنظيمات والتركيز على أن التحرر الاجتماعى والاقتصادى لا ينفصل على التحرر السياسى.. ولعل أبرز ما يمثل ذلك تكوين اللجنة الوطنية للعمال والطلبة عام 1946 لقيادة النضال الشعبى ضد الاحتلال ثم تنفيذ أكبر إضراب عمالى ذى مضمون سياسى وطنى خالص حين قام به نحو 60 ألف من العمال المصريين والانسحاب من العمل فى قاعدة قناة السويس البريطانية على أثر إعلان إلغاء معاهدة 1936 فى أكتوبر عام 1951 وإذا كانت أحداث ثورة 1919 قد حفلت بأسماء أبطال من العمال قاموا بأروع الأدوار الوطنية فى مناصرة هذه الثورة بما فى ذلك الانضمام إلى [التنظيم السرى للثورة] فإن حركة الكفاح المسلح الذى اندلع ضد الانجليز فى منطقة القناة عام 1951 قامت على أكتاب العمال قبل غيرهم.

يكفى مثلا.. أن نشير إلى أن القائد العام لقوات الفدائيين فى معارك القناة عام 1951 الذى أعلن الجنرال أرسكين القائد البريطانى العام فى القناة الذى لقب بسفاح القناة عن جائزة قدرها 5000 جنيه لمن يأتى به حيا أو ميتا أو يدلى بمعلومات تؤدى إلى القبض عليه كان عاملا هو محمد عبد الوهاب المهدى عامل المطافى بشركة شل بالسويس.

ولعلنا أيضا.. نشير على سبيل المثال إلى الدور الباهر الذى لعبه العمال مع قيادة ثورة يوليو فى تأميم القناة عام 1956.. قد كان من أبطال هذا الدور المغفور له زكى ربيع رئيس نقابة عمال شركة القناة وخلفه المغفور له السيد محمد نصار.. إن تاريخنا الوطنى حافل بأشرف الأدوار وأشجعها لعمال مصر وتنظياتهم النقابية خاصة فى مناصرة ثورة يوليو 1952 بما يمثل صفحات نضال وطنى مجيد ازداد توهجا وتألقا بقيام الاتحاد العام لنقابات عمال مصر فى يناير 1957 ليمضى التنظيم النقابى فى إسهامه الإيجابى الفعال فى قضايا النضال الوطنى سيما فى مواجهة عدوان 1967، وحرب 1973 المجيدة بما يحتفظ به التاريخ فى صفحات من نور.. ولا تزال بطولات عمال مصر فى حرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ، والإسهام فى صنع انتصارات أكتوبر 1973 المجيدة تروى بالفخر والإعجاب.. على أن أهم ما تميزت به الحركة العمالية المصرية منذ ظهورها هو الاحتفاظ بهويتها القومية الوطنية بحيث لا تعمل إلا من أجل مصر وجماهير عمالها.. كل عمالها .. محتفظة باستقلال تنظيماتها النقابةي عن الأحزاب.

ذلك أن ثورة 1919 قد تمخضت عن ظهور الأحزاب السياسية بداية بحزب الوفد والذى من عباءته توالى ظهور العديد من الأحزاب.. وقد أوضحت الثورة وأكدت أهمية الدور الفعال الذى لعبته جماهير العمال والفلاحين التى صنعت الثورة وضحت من أجل نصرتها ومن ثم كان سعى الأحزاب إلى احتواء الحركة العمالية المصرية عن طريق إنشاء اتحادات عمالية تابعة لهذه الأحزاب وخاضعة لها وتمثل ذلك فى.. الاتحاد المصرى للعمال الذى أنشأه الحزب الاشتراكى سنة 1920، ثم الاتحاد العام لعمال وادى النيل الذى أنشأه حزب الوفد بزعامة عبد الرحمن فهمى عام 1924، ثم الاتحاد العام لنقابات عمال القطر المصرى الذى أنشأه حزب الأحرار الدستوريين عام 1928، ثم اتحاد ولى العهد الذى أنشأه القصر الملكى عام 1930، ثم اتحاد نقابات عمال القطر المصرى الذى أنشأه حزب العمال بزعامة النبيل عباس حليم عام 1935، ولكن هذه الاتحادات كلها سرعان ما آلت إلى زوال لانصراف العمال عنها لأسباب عديدة تتباين ولكنها تلتقى عند إصرار الحركة العمالية المصرية على أن تكون تنظيماتها النقابية مستقلة نابعة من إرادة جماهيرية وخاضعة لإرادة هذه الجماهير.

بيد أن من أبرز الأمور ذات الدلالة على الطبيعة المتميزة للحركة العمالية المصرية أن هذه الحركة استطاعت أن تقيم منظماتها النقابية من نهاية القرن الماضى وبدايات القرن العشرين بينما لم يكن هناك قانون للنقابات فى مصر يعترف لها بالشخصية الاعتبارية على أساس أنها الهيئات التى تمثل العمال أمام أصحاب الأعمال وأمام السلطة.. إذ كان صدور أول قانون يعترف بالنقابات عام 1942 هو قانون رقم 85 لسنة 1942.

معنى ذلك أن الحركة العمالية المصرية تميزت بقدرتها على أن تفرض الأمر الواقع وقد شكلت نقاباتها قبل أن تحصل على هذا الحق قانونا بنحو 40 سنة.. كما استطاعت الحركة العمالية المصرية أن تمارس حق الإضراب منذ أواخر القرن الماضى حتى الآن رغم حرمانها قانونا من هذا السلاح بل أن الحركة العمالية المصرية تمارس نشاطا سياسيا متواصلا منذ بداية القرن الحالى حتى الآن بفعالية متزايدة رغم أنها لم تشكل لها حزبا سياسيا.